الفتوى فى عصر الشيخ جوجل
ان من مساوئ الشبكة العنكبوتيه ، هذا الكم الهائل من المعلومات المجهولة المصدر والغير موثقة المخزونة بها . وكان لبرامج البحث عن المعلومات أهمية بالغة فى الحصول على المعلومات التى يريدها الإنسان فى فرع من فروع المعرفة بمنتهى السرعة
وأخطر ما فى الأمر هو إستخدام هذا البرنامج للحصول على معلومات عن ديننا الحنيف ، وخاصة الأحكام الشرعية العملية التى تتصل بسلوكنا وتصرفاتنا ، فضلآ عن أحكام العقيدة والأخلآق.
كان فى الزمن الما ضى إذا أراد الإنسان أن يعرف حكما شرعيا ، ذهب إلى عالم فقيه متخصص ليسأله عما أراد ، وإذا إستجدت قضية من القضايا أو مسألة من المسائل وكلت لأصحاب الفتوى من العلماء المجتهدين.
وكان لآ يجرأ على الفتوى إلآ مثل هؤلآء العلماء ، وكان المسلمون لآ يرضون ولآ يقبلون من الفتوى إلآ ما صدر من عالم نال إحترام المسلمين وتقديرهم ، حتى ظهر هذا الشيخ الأصم الأبكم الذى يجيب عن كل ما يسأل عنه. إنه الشيخ جوجل الذى إذا سئل عن شيئ اجاب وإذا أستفتى فتى. والذى إستبدله جهلة المسلمين بعلمائهم الصالحين المتخصصين.
والبطبع ليس هو مسئولآ عن كل ما يخرج من جعبته ، إنما المسئول هو من يستغله إستغلآلآ سيئا للحصول على هذه المعلومات مجهولة المصدر والغير موثقة. وأسوأ شيئ أنه لآ يحتفظ بهذه المعلومات لنفسه بل ينشرها بين الناس كأنها حقائق . ودين الله لآ يأخذ إلآ من مصادر موثوقة ومعروفة ، وليس من مجاهيل ونكرة ، وما كان مجهول المصدر فهو عديم القيمة مهما كان محتواه . وكثير ممن ينشرون هذه المعلومات لآ يذكرون أنهم حصلوا عليها من مصادر مجهولة ،فيعتقد الناس أنها صادرة منهم و يردون عليهم بالشكر والثناء ، فيأخذهم الغرور ويعتقدون أنهم قد دخلوا فى زمرة علماء المسلمين.
ولخطورة هذا الأمر ، لآ يسعنى إلآ أن أعرض رأى أحد علماء المسلمين فى مسألة الفتيا ومن يجرأ عليها ، حتى أذكر من أراد أن يتذكر ، بخطورة التعرض للفتيا والحديث فى شرع الله ، وأن التعرض لذكر أحكام شرعية بدون معرفة مصادر هذه الأحكام وعللها التى بنيت عليها هو نوع من الفتيا الغير مباشرة إستحدث فى زمن الشيخ جوجل ينبغى أن ينتبه الإنسان لها قبل أن يقع فى حديث كذب على الله تعالى .
إنه العالم الجليل إبن القيم من خلآل لكتابه "إعلآم الموقعين عن رب العالمين" الذى يحتوى على فصل بعنوان : تورع السلف عن الفتيا
وإعلآم الموقعين هو كتاب يريد به المؤلف أن يذكر من يتعرضون للفتيا أنهم موقعين عن رب العالمين على وثائق تتصل بأحكام الله ، صاحب الحكم على أفعال المسلمين ، فكأن المتعرض للفتيا هو نائب عن الله تعالى ، ولذلك عليه أن يتحرى منتهى الأمانة والحذر فى النقل عن الله عز وجل.
ويبدوا أن الإستخفاف بهذا الأمر فى زمن الكاتب ، الذى كان أفضل بكثير مما نحن عليه فى زمننا ، هو الدافع لكتابة هذا الكتاب الضخم ، فما أحوجنا نحن اليوم للعودة الى بعض فصول الكتاب ، إخترت منها هذا الفصل
يقول بن القيم فى الكتاب المذكور فى صفحة رقم 35 وما بعدها:
"وكان السلف من الصحابة والتابعين يكرهون التسرع فى الفتوى ، ويود كل واحد منهم أن يكفيه إياه غيره ، فلإذا قد تعينت عليه بذل لإجتهاده فى معرفة حكمها من الكتاب والسنة أو قول الخلفاء الراشدين ثم أفتى.
وقال عبد الله بن المبارك : حدثنا سفيان عن بن عطاء بن السائب عن عبد الرحمن بن أبى ليلى قال : أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (وهؤلآء هم السلف الصالح الذين ينتسب إليهم السلفيون الحقيقيون. ، ن .ز.) ــ أراه قال: فى المسجد ــ فما كان منهم محدث إلآ ود أن أخاه كفاه الحديث ، ولآ مفت إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا.
وقال الإمام أحمد : حدثنا جرير عن عطاء بن السائب عن عبد الرحمن بن أبى ليلى قال : أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منهم رجل يُسأل عن شيئ إلآ ود أن أخاه كفاه ، ولآ يحدث إلآ ود أن أخاه كفاه.
وقال مالك عن يحيى بن سعيد أن بكير بن الأشج أخبره عن معاوية بن أبى عياش ـنه كان جالسا عند عبد الله بن الزبير وعاصم بن عمر ، فجاء هما محمد بن إياس بن البكير فقال : إن رجلآ من أهل البادية طلق امرأته ثلآثل فماذا تريان؟ فقال عبد الله بن الزبير : إن هذا الأمر مالنا فيه قول ، فإذهب الى عبد الله بن عباس وأبى هريرة فإنى تركتهما عند عائشة زوج النبى صلى الله عليه وسلم ( وهذهه قصة مفيدة لها أبعاد أخرى يدركها اللبيب. ن.ز.) ، ثم ائتنا فأخبرنا ، فذهبت فسألتهما ، فقال ابن عباس لأبى هريرة : أفته يا أبى هريرة (أى أجبه يا أبا هريرة ، فالفتوى يمكن أن تكون مجرد جواب على سؤال طرح. ن.ز.) فقد جائتك معضلة ، فقال أبو هريرة : ااواحدة تبينها ، والثالثة تحرمها حتى تنكح زوجا غيره.
وقال مالك عن يحيى بن سعيد قال : قال بن عباس : إن كل من أفتى الناس فى كل ما يسألونه عنه لمجنون ، قال مالك : وبلغنى عن ابن مسعود مثل >لك ، رواه ابن وضاح عن يوسف بن عدى عن عبد بن حميد عن الأعمش عن شقيق عن عبد الله ، ورواه حبيب بن أبى ثابت عن أبى وائل عن عبد الله.
وقال سحنون بن سعيد : أجرأ الناس على الفتيا أقلهم علما ، يكون عند الرجل الباب الواحد من العلم يظن ان الحق كله فيه.
قلت : (إى إبن القيم ، ن. ز.) الجرأة على الفتيا تكون من قلة العلم ومن غزارته وسعته ، فإذا قل علمه أفتى عن كل ما يُسأل عنه بغير علم ، وإذا إتسع علمه إتسعت فتياه ، ولهذا كان بن عباس أوسع الصحابة فتيا ، وقد تقدم أن فتاواه جمعت فى عشرين سفرا ، وكان سعيد بن المسيب أيضا واسع الفتيا ، وكانو يسمونه ، كما ذكر وهب عن محمد بن سليمان المرادى عن أبى إسحاق قال : كنت أرى الرجل فى ذلك الزمان وأنه ليدخل يسأل عن الشيئ فيدفعه الناس عن مجلس الى مجلس (أى يرسلوه من مجلس علم إلى مجلس آخر، ن. ز.) حتى يدفع إلى مجلس سعيد بن المسيب كراهية الفتيا ، قال وكانوا يدعونه سعيد بن المسيب الجريئ.
وقال سحنون : إنى لأحفظ مسائل منها ما فيه ثمانية أقوال من ثمانية أئمة من العلماء ، فكيف ينبغى أن أعجل بالجواب قبل الخبر؟ فلم أُلآم على حبس الجواب؟
وقال وهب بن منبه : حدثنا أشهل بن حاتم عن عبد الله بن عون عن ابن سيرين قال : قال حذيفه إنما يفتى الناس أحد ثلآثة : من يعلم ما نسخ من القرآن ، أو أمير لآ يجد بُدا أو أحمق متكلف ، قال فربما قال بن سيرين : فلست بواحد من هذين ، ولآ أحب أن أكون الثالث"
وتحت فصل تحريم القول على الله بغير علم قال بن القيم فى صفحة 39 :
" وقد حرم الله سبحانه وتعالى القول عليه بغير علم فى الفتيا والقضاء ، وجعله من أعظم المحرمات ، بل جعله فى المرتبة العليا منها ، فقال تعالى "قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ" (ألأعراف 33) فرتب المحرمات أربع مراتب ، وبدأ بأسهلها وهو الفواحش ، ثم ثنى بما هو أشد تحريما ثم ثلث بما هو أعظم تحريما منها وهو الشرك به سبحانه ، ثم ربع بما هو أشد تحريما من ذلك كله وهو القول عليه بلآ علم ، وهذا يعم القول عليه سبحانه بلآ علم فى أسمائه وصفاته وأفعاله فى دينه وشرعه ، وقال تعالى:
" وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ
مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" (النحل 116 ، 117)
فتقدم عليهم سبحانه بالوعيد على الكذب عليه فى أحكامه ، وقولهم لما لم يحرمه : هذا حرام ، ولما لم يحله : هذا حلآل ، وهذا بيان منه سبحانه أنه لآ يجوز للعبد أن يقول هذا حلآل وهذا حرام إلآ بما علم أن الله سبحانه أحله وحرمه.
وقال بعض السلف : ليتق أحدكم أن يقول : أحل الله كذا ، وحرم كذا ، فيقول الله : كذبت لم أحل ولم أحرم كذا ، فلآ ينبغى أن تقول لما يعلم ورود الوحى المبين بتحليله وتحريمه : أحله الله وحرمه لمجرد التقليد أو التأويل."
وتحت عنوان لآينبغى أن يقال هذا حكم الله ، يقول ابن القيم فى نفس الصفحة وما يليها ، وهذا أخطر ما قرأت فى هذ الكتاب وغيره من الكتاب:
"وقد نهى النبى صلى الله عليه وسلم فى الحديث الصحيح أميره بريدة أن ينزل عدوه إذا حاصره على حكم الله ، وقال : "فإنك لآ تدرى أتصيب حكم الله فيهم أم لآ ، ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك" فتأمل كيف فرق بين حكم الله وحكم الأمير المجتهد ، ونهى أن يسمى حكم المجتهدين حكم الله."
ومن هذا لما كتب الكاتب بين يدى أمير المنؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه حكما حكم به فقال : هذا ما أرى الله أمير المؤمنين عمر ، فقال لآ تقل هذا ولكن قل : هذا ما رأى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.
وقال ابن وهب : سمعت مالكا يقول : لم يكن من أمر الناس ولآ من مضى من سلفنا ، ولآ أدركت أحدا أفتى به يقول فى شيئ : هذا حلآل وهذا حرام ، وما كانوا يجترئون على ذلك ، وإنما كانوا يقولون ، نكره كذا ونرى هذا حسنا ، فينبغى هذا ، ولآ نرى هذا ، ورواه عنه عتيق بن يعقوب ، وزاد : ولآ يقولون حلآل و لآ حرام ، أما سمعت قول الله تعالى : " قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ " (يونس 59)
وتحت عنوان: فيما روى عن صديق الأمة وعلمائها من إنكار الرأى كتب العالم الجليل ابن القيم فى صفحة 51 ما يلى:
" روينا عن عبد بن حميد : حدثنا أبو أسامه عن نافع عن عمر الجحمى عن ابن مليكة قال : قال أبو بكر رضى الله عنه أى أرض تقلنى وأى سماء تظلنى إن قلت فى آية من آيات كتاب الله برأيى ، أو بما أعلم.
وذكر الحسين بن على الحلوانى : حدثنا عارم عن حماح بن زيد عن سعيد بن أبى صدقة عن ابن سيرين قال : لم يكن أحد أهيب بما لآ يعلم من إبى بكر رضى الله عنه ، ولم يكن أحد بعد إبى بكر أهيب بما لآ يعلم من عمر رضى الله عنه ، وإن أبا بكر نزلت به قضية فلم يجد فى كتاب الله منها أصلا ولآ سنة أثرا فاجتهد برأيه ثم قال : هذا رأيى ، فإن يكن صوابا فمن الله ، وغن يكن خطأ فمنى ، وأستغفر الله."
ثم أورد إبن القيم رأى عمر بن الخطاب فى ذلك ، ومما ذكره قول بن الهادى عن محمد بن إبراهيم التيمى قال : قال عمر بن الخطاب : إياكم والرأى ، فإن أصحاب الرأى أعداء السنن ، أعيتهم الأحاديث أن يعوها ، وتفلتت منهم أن يعوها ، وإستحيوا حين سئلو أن يقولوا لآ نعلم ، فعارضوا السنن برأيهم ، فإياكم وإياهم. (ص. 52)
وذكر بن القيم قول الشعبى : عن عمرو بن حرث قال : "قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه : إياكم وأصحاب الرأى فإنهما أعداء السنن ، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها ، فقالوا بالرأى فضلوا وأضلوا" ، ثم قال " وأسانيد هذه الآثار عن عمر فى غاية الصحة. (نفس الصفحة)
ثم أورد قول بن مسعود ، وقول عثمان ، وقول على ، وقول بن عباس ، وقول سهيل بن حنيف ، وقول ابن عمر ، وقول زيد بن ثابت ، وقول معاذ ، وقول أبى موسى ، وقول معاوية رضى الله عنهم جميعا فى ذم الرأى ، أكتفى بنقل رأى عبد الله بن مسعودرضى الله عنه:
قال أبو بكر بن أبى شيبة : حدثنا أبو خالد الأحمر عن مجالد عن الشعبى عن مسروق قال : قال عبد الله بن مسعود : علمائكم يذهبون ، ويتخذ الناس رؤساء جهالآ يقيسون الأمور برأيهم.
وقال سعيد بن منصور : حدثنا خلف بن خليفة حدثنا أبو زيد عن الشعبى قال : قال لإبن مسعود : إياكم وأرأيت أرأيت ، فإنما هلك من كان قبلكم بأرأيت أرأيت ، ولآ تقيسوا شيئا فتزل قدم بعد ثبوتها ، وإذا سئُل أحدكم عما لآ يعلم فليقل لآ أعلم ، فإنه ثلث العلم.
المصدر : إبن قيم الجوزية ، إعلآم الموقعين عن رب العالمين ، دار الحديث ، القاهرة 2004